على الرغم من الانتصار العسكري الذي حقّقته قوات الأمن العراقية على تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» في نهاية العام 2017، إلّا أنّ خطر التنظيم لم ينتهِ بعد، فما تزال عقيدة التنظيم وإيديولوجيته المتطرّفة عامل جذب للكثير من المتشددين على المستويين المحلي والدولي، فضلاً عن ذلك، فإنّ الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت أهم مغذيات تنظيم «داعش» في العراق لم تتغير بعد.
في مقالة سابقة كتبتها عن (فرضية إعادة تكرار سيناريو داعش في العراق) استبعدت فيها تكرار سيناريو عام 2014 في الوقت الحالي؛ وذلك بناءً على مجموعة معطيات، لكن في هذه المقالة سأُعطي فرضية أُخرى تختلف نوعاً ما عن فرضية المقالة السابقة، إلّا أنّهما لا يختلفان عن بعضهما من حيث تحديد مكامن الخلل. وللتأكّد من فرضية المقالة سنتناول مجموع حقائق من شأنها أن تضع صانع القرار العراقي في دائرة خطر المواجهة مع التنظيمات الإرهابية من جديد.
بالتأكيد هناك مجموعة من العوامل التي ما تزال توفّر بيئة خصبة للتنظيمات الإرهابية والمتطرفة في كلّ أنحاء العراق ولعلّ أهما:
العوامل السياسية
ربّما تحت هذا العنوان تندرج كلّ عناوين عدم الاستقرار في العراق بجوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، وهو العامل الأساس في إرساء دعائم الاستقرار العام في البلد، إلّا أنّ وعلى ما يبدو بأنّ عدم الاستقرار السياسي الذي تعاني منه الدولة العراقية والعملية السياسية بعد عام 2003 أصبح صفة ملازمة للنظام السياسي العراقي، وهذه الصفة من شأنها أن تولِّد حالة عدم استقرار مجتمعي وتدهور اقتصادي، وكذلك تضعف عمل المؤسّسات الأمنية بمختلف تشكيلاتها، فضلاً عن ذلك، فإنّ الحكومة بأجهزتها المختلفة تصبح سهلة الاختراق ومسرحاً للأحداث الإقليمية والدولية، لاسيّما في ظل النزاع الإقليمي والدولي بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة من جهة وإيران من جهة أُخرى، لاسيّما مع وجود مقومات ذلك الصراع على الساحتين السياسية والشعبية.
تنمية قدرات المتطرّفين
ربّما يكون العنوان غريب نوعا ما، إلّا أنّ المتتبع للحراك المسلح في العراق بعد عام 2003 يرى بأنّ عمل التنظيمات الإرهابية والمتطرّفة في العراق تُدرج عبر عدّة مراحل بمساعدة قوات الاحتلال الأمريكية والحكومة العراقية آنذاك، من خلال الإستراتيجية التي اتبعها الأمريكان والحكومة العراقية في كيفية زجّ المعتقلين في السجون العراقية، لاسيّما في سجن أبو غريب وسجن بوكا في البصرة وغيرها من السجون العراقية المنتشرة في محافظات العراق.
إنّ طبيعة خلط المعتقلين مع بعضهم سوياً بطريقة عشوائية بغض النظر عن طبيعة الجرائم المرتكبة سواء كانت جنائية أو مدنية تساهم في غسل أدمغة الكثير من المعتقلين، لاسيّما أُولئك الذين لم يعتنقوا فكر التنظيمات الإرهابية سابقاً، ولعلّ تجربة تنظيم «داعش» وزعيمه الإرهابي أبو بكر البغدادي نموذج واضح، فالكثيرون من عناصر التنظيم انظموا له من خلال عملية الاعتقال داخل السجون، فعناصر التنظيم الذين اعتقلوا وهم منتمون فعلياً للتنظيمات الإرهابية سيعملون على خلق بيئة خصبة لإعادة تشكيل الخلايا التنظيمية وكسب عناصر جديدة من داخل السجون.
إنّ ما يحدث اليوم في سجون العراق بعد دحر تنظيم داعش هو عملية شبيهة لما حدث سابقاً على يد الأمريكان، لاسيّما مع هذا الحجم الكبير من المعتقلين من التنظيمات الإرهابية خلال معارك التحرير التي خاضته قوات الأمن العراقية في الفترة الأخيرة. وبالتالي فإنّ الحكومة العراقية ربّما تسهم في تنمية قدرات التنظيمات الإرهابية بشكل أو بآخر وتساعد على انتشار أفكارها المتطرّفة من خلال طريقة إدارتها للسجون.
عوائل داعش
لعلّ وجود عوائل داعش في العراق يعدّ من أخطر التحدّيات التي تهدّد الأمن المجتمعي وأمن المواطن العراقي بشكل عام على المستوى المتوسط والبعيد، وإنّ خطورتها تكمن في إعادة تأهيلها وطبيعة التعامل معها، فهذه العوائل أصبحت نكرة في المجتمع العراقي ومطلوبة عشائرياً ومن الصعب إعادة دمجها في المجتمع العراقي مرّة ثانية، لاسيّما مع الإيديولوجية المتطرّفة التي تحملها أغلب تلك العوائل سواء تلك التي تم ترحيلها من سوريا بعد عملية تحريرها أو تلك العوائل التي تمّ حجزها بمخيمات خاصّة بعد عمليات تحرير محافظة الموصل. إنّ وجود هذه العوائل دون إعادة تأهيل ستصبح بمثابة قنابل موقوتة داخل المجتمع العراقي بمرور الوقت، لاسيّما في حال تركت تلك العوائل دون تأهيل صحيح داخل المجتمع العراقي.
الذئاب المنفردة
عادة ما يتبع تنظيم «داعش» خلال فترة افتقاده السيطرة على الأرضي، كتلك الفترة التي سبقت اجتياحه لمحافظة الموصل في عام 2014، ما يُسمّى بإستراتيجية الذئاب المنفردة، أي بمعنى أنّه يلجأ إلى تكثيف هجماته ضد المدنيين والقوات الأمنية من خلال عمليات مباغته، كتلك التي اعتمدها التنظيم مؤخراً في صحراء حديثة أو في جبال مكحول أو غيرها من المناطق المأهولة والبعيدة عن المدن وحركة الناس. تكرار عمليات الخطف والتهريب والقتل من قبل عناصر تنظيم داعش من خلال الاعتماد على هذه الإستراتيجية ستعطي أمل كبير لعناصر التنظيم والمتشددين في جميع أنحاء العالم للعودة مرّة أُخرى في أحكام سيطرتهم على بعض الأراضي الهشة أمنياً من أجل إبقاء صورة التنظيم وجاذبيته مفتوحة أمام المتشددين والمتطرّفين، فضلاً عن ذلك، فإنّ الاعتماد على هذه الإستراتيجية ستجعل هدف إحياء الخلافة المزعومة في العراق وسوريا هدفاً حيّاً لكلّ المتشددين.
خلاصة القول، لا يمكن القضاء على تنظيم «داعش» والفكر المتطرّف بشكل عام بالطرق العسكرية وردات الفعل المفاجئة أو بالطُّرُق البدائية؛ لأنّ تنظيم داعش استطاع أن يوظّف التاريخ والأسطورة وما يزال مصدر جذب للكثير من المتطرّفين في العالم، وله القدرة على سدة الثغرات التي تخلّفها السياسات الحكومية بطُرُق مختلفة.
وعليه لابدّ أن تكون هناك إستراتيجية شاملة لمعالجة كلّ مسبّبات داعش والاستفادة من الأخطاء السابقة التي وظّفها التنظيم لصالحه في السنوات الماضية، ومعالجة الثغرات أعلاه، لاسيّما تلك المتعلّقة بحالة الصراع السياسي وإدارة السجون العراقية وملاحقة التنظيم في أماكن تواجده، وتوجيه له الضربات الاستباقية التي تحدّ من قدرة عناصره على مباغتة القوات الأمنية والمدنيين.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق